بعدما شلت جائحة كورونا بعض العادات الرمضانية للمجتمع الحساني لعامين متتاليين، عادت أجواء الشهر المبارك اليوم إلى وضعها الطبيعي بالأقاليم الجنوبية للمملكة، بفضل استقرار الحالة الوبائية وتخفيف القيود المفروضة على التجمعات والأنشطة في الفضاءات المفتوحة والمغلقة.
وكما هو معروف لدى ساكنة الأقاليم الجنوبية، يتسم شهر رمضان بطقوس دينية وعادات اجتماعية أصيلة، انطلاقا من التحضير لاستقبال هذا الشهر الكريم، إلى اعداد موائد الإفطار والسحور، ثم باقي الأنشطة المتعلقة بالتواصل الاجتماعي، وأجواء قضاء أيام رمضان ولياليه في ظروف متميزة.
ومن بين العادات الشعبية التي لا تزال ساكنة الصحراء متشبثة بها خلال هذا الشهر الفضيل، على الرغم من التطور الذي عرفته مختلف مجالات الحياة اليومية، تبرز جلسات السمر بعد صلاة التراويح، والتي يتم خلالها إعداد الشاي، مع ما يتخلل ذلك من طقوس اجتماعية فريدة كالإبداع في الشعر والتسلي بالألغاز فضلا عن تبادل الآراء والافكار حول مواضيع وقضايا تهم الحياة اليومية.
وتؤثث فضاء الجلسات الرمضانية في غالب الأحيان ممارسة ألعاب تقليدية نسجها المخيال الشعبي الحساني على نحو طقوسي واسع، منها لعبة “السيك” و”اكرور”، وهي لعبة نسائية بامتياز، تعتمد على المهارات والقدرات الذهنية، وكذا لعبة “ضاما” و”الدومينو”، فضلا عن لعبة “مرياس” و”دبلي” التي يقبل الرجال على ممارستها بقوة بالصحراء.
وبالنسبة لمائدة الإفطار، كان أبناء هذه الربوع يحبذون تناول وجبات تنسجم مع نمط عيشهم وخصوصية حياتهم، حيث كانت المائدة الرمضانية تقتصر على تحضير “لحسا لحمر” (الحساء الأحمر) المعد أساسا من دقيق الشعير إلى جانب التمر والألبان، فضلا عن الشاي الذي يعد مشروبا شعبيا يتبوأ مكانة استثنائية ضمن العادات الغذائية بالصحراء.
لكن مائدة الإفطار بالأقاليم الجنوبية أضحت اليوم لا تكاد تخلو من شربة “الحريرة” بأنواعها المختلفة إلى جانب التمر والحليب والسمك والحلويات وأنواع متعددة من الفطائر والعصائر.
أما وجبة العشاء، فمن النادر تحضيرها بالصحراء إذ يتم الاكتفاء بإعداد الشاي مرة أخرى وتمضية الوقت في التسلية، عكس وجبة السحور التي غالبا ما يتم خلالها تناول أطباق تختلف باختلاف الأذواق والأجيال والمستوى الاجتماعي والمادي للأسر.
فقد اختفت بعض العادات والتقاليد، حيث لم يعد للأكلات الشعبية المعروفة باسم “بلغمان” و”الزميت” و”العيش” و”تيشطار”، أي اللحم المجفف، مكان ضمن المائدة الصحراوية، حيث تم تعويضها بالأسماك بمختلف أنواعها وكذا اللحوم الحمراء والبيضاء والخضروات والفواكه.
وبالرغم من التحول الذي طرأ على النظام الغذائي بالصحراء خلال شهر رمضان، فإن الأجواء الروحية والاجتماعية لهذا الشهر المبارك ظلت في كثير من تجلياتها راسخة في وجدان المجتمع الحساني كطقوس وممارسات شعبية تعكس جوانب منها المستوى الاجتماعي للأسر، والمظاهر الدينية المتأصلة في ذاكرة المجتمع الحساني، مادامت تأتي في طليعة الثوابت والمرتكزات التي لا محيد عنها.
وبالنسبة للطقوس الدينية خلال شهر رمضان، يحرص الصائم بالأقاليم الجنوبية للمملكة على حضور ما تيسر له من دروس دينية ثم الانصراف إلى العبادات وأداء الفرائض في ورع وتقوى كما يليق بالشهر المبارك، وكما دأبت على ذلك ممارسات الآباء والأجداد، إلى جانب صلة الأرحام وتبادل الزيارات بين الأحباب و الأصدقاء والجيران، التي قد تزيد قليلا عن الأيام العادية بسبب فسحة الزمن التي يتيحها هذا الشهر الكريم.
ومن بين التقاليد والعادات الراسخة لدى أبناء هذه الأقاليم، توزيع شهر رمضان إلى ثلاث مستويات، يسمون المستوى الأول بعشراية التركة (الأطفال) أو عشراية ركاب الخيل حيث تكون للإنسان قدرة على تحمل الصيام، ويسمى المستوى الثاني بعشراية أفكاريش, أو عشراية ركاب لبل (الإبل) وهي مرحلة تتطلب صبرا إضافيا، فيما يسمى المستوى الثالث بعشراية لعزايز (المسنات) أو ركاب الحمير للدلالة على مرور الوقت ببطء والإحساس بالتعب.
وهكذا، يتميز شهر رمضان بالأقاليم الجنوبية للمملكة بأجواء السمر وتبادل الزيارات بين الأهل والأقارب من أجل تدعيم أواصر صلة الرحم، إلى جانب الحرص على القيام بالشعائر الدينية، والإكثار من الصدقات والمبادرات الكفيلة بدعم الفقراء والمعوزين، على أن هذا الشهر الفضيل يعكس بقوة التحول الذي طرأ على النظام الغذائي بهذه الأقاليم بفعل الانتقال إلى حياة الاستقرار عوض حياة البداوة والترحال، وكذا التطور الذي شمل جميع مجالات الحياة اليومية لساكنة المنطقة.